دبلوماسية الصحة:
كيف تسهم المساعدات الطبية في تطوير العلاقات البينية العربية؟

دبلوماسية الصحة:

كيف تسهم المساعدات الطبية في تطوير العلاقات البينية العربية؟



لجأت العديد من الدول العربية إلى تعزيز العلاقات الخارجية مع الدول العربية الصديقة أو الشقيقة من خلال تبني نمط جديد قديم وهو ما اصطلح على تسميته في الكتابات بـ”دبلوماسية الصحة” أو دبلوماسية المساعدات الطبية أو دبلوماسية الأوبئة أو الدبلوماسية الناعمة للرعاية الصحية، خاصة بعد تفشي كوفيد-19 وتأثيراته التي طالت اقتصادات دول وتماسك مجتمعات وصحة أفراد، بحيث تنوعت تلك المساعدات ما بين تأمين جرعات من اللقاحات وتوفير أدوية وأجهزة تنفس صناعية وبدلات واقية للأطقم الطبية وإرسال لجان علمية ونقل خبرات طبية ومكافحة أمراض معدية وتوطين صناعات دوائية وتفعيل البروتوكولات المشتركة.

مداخل متعددة

وفي هذا السياق، يعرف اتجاه في الأدبيات “الدبلوماسية الصحية” بأنها “كسب قلوب وعقول الناس في البلدان الفقيرة من خلال تصدير الرعاية الطبية والخبرات والموظفين لمساعدة من هم في أمسّ الحاجة إليها”، وهو ما يشير إلى التقاطع بين الصحة العامة والشئون الخارجية. وتبعاً لذلك الاتجاه، فإن المساعدات الطبية يمكن أن تكون أداة لتقوية العلاقات العربية- العربية، على النحو التالي:

1- محورية “الأنسنة” في السياسة الخارجية: على الرغم من أن المصالح والبرجماتية هى المتغير الحاكم للعلاقات بين الدول، ومنها المنطقة العربية، إلا أن هناك جوانب أخرى لا يمكن تجاهلها، إذ ترتكز السياسة الخارجية لبعض الدول العربية، مثل الإمارات والسعودية ومصر، على التأكيد على التمسك بمبادئ وقيم الإنسانية، والتضامن بين الشعوب، وذلك من خلال تقديم المساعدات الإنسانية. ولعل ما قدمته الدول الثلاث من مساعدات لدول صديقة وشقيقة، خلال أزمة حادة مثل كوفيد-19، يشير إلى اهتمامها بالقضايا الإنسانية وإغاثة الشعوب المتضررة.

فعلى سبيل المثال، أعلنت الرئاسة التونسية، في 11 يوليو الجاري، أن كوادرها الصحية ستتسلم 500 ألف جرعة من اللقاح المضاد لفيروس كورونا، مُقدمة من الإمارات، وجاء الإعلان عن ذلك عقب مكالمة أجراها الرئيس التونسي قيس سعيّد مع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولى عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة تناولت العلاقات الثنائية وسبل دعمها، وتعزيزها في مختلف المجالات، إضافة إلى تطورات جائحة كورونا في البلدين، وآخر مستجداتها وآثارها على مختلف المستويات الإنسانية، والصحية، والاجتماعية.

هذا فضلاً عن الحد من التأثيرات التي تتعرض لها الفئات المهمشة، إذ تسهم الدبلوماسية الصحية التي تتبناها بعض الدول العربية، مثل الإمارات، في التخفيف من أعباء القوى المجتمعية التي تندرج ضمن “جغرافيا الانكشاف” مثل اللاجئين والنازحين والعالقين، على نحو ما عكسه الإجلاء الوطني لمواطني دول عربية عالقين في دول ينتشر فيها فيروس كورونا، ومعالجة المشاكل الصحية للاجئين من سوريا واليمن، على سبيل المثال.

2- الحفاظ على بقاء وتماسك النظم الصحية الوطنية: هناك إدراك لدى بعض الدول العربية بأن العالم يواجه وباءاً سريع الانتشار عابر للحدود الوطنية مما يلقي بتأثيراته على دول الجوار الجغرافي المباشر، في حال تزايد نسب الإصابات والوفيات، الأمر الذي يستلزم الدعم المبكر تجنباً لسيناريوهات سيئة، وهنا تسود مخاوف من انهيار المنظومة الصحية في تونس بسبب الوباء لاسيما بعد تصنيف وزارة الصحة جميع ولايات البلاد، باستثناء ولاية قفصة في الجنوب، في مستوى “إنذار مرتفع جداً” الذي يعادل 100 إصابة لكل 100 ألف نسمة، مع الأخذ في الاعتبار تزايد تلك المعدلات.

لذا، قالت نصاف بن علية المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية، في 8 يوليو الجاري، أن “المنظومة الصحية في البلاد انهارت مع امتلاء أقسام العناية الفائقة وإرهاق الأطباء والتفشي السريع لجائحة كورونا”. ولعل ذلك أثار قلق بعض دول الجوار لتونس، حيث استدعى إلى الأذهان “النموذج البرازيلي”. وفي هذا السياق، توجه وزير الصحة الجزائري عبد الرحمن بن بوزيد، بأمر من رئيس الجمهورية، في 13 يوليو الجاري، وبصحبة وفد هام يضم أعضاء من “اللجنة العلمية لرصد ومتابعة تفشي وباء كورونا”، إلى تونس، وهو الوفد الذي اصطحب معه هبة جزائرية لتونس، تشمل 20 طناً من المعدات الطبية والأدوية والمستلزمات الوقائية، فضلاً عن 250 ألف جرعة من اللقاحات المضادة لكورونا.

3- عودة مركزية الروابط القومية العروبية: وعبر عن ذلك جلياً بيان القوات المسلحة المصرية لدعم الحكومة اليمنية الشرعية الصادر في 26 يوليو 2020، والذي أوضح أن “المساعدات من المستلزمات الطبية والمطهرات، للوقوف بجانب الشعب اليمني الشقيق في محنته ومجابهة انتشار فيروس كورونا والأوبئة الأخرى المنتشرة باليمن”، مضيفاً أن المساعدات تأتي “انطلاقاً من الروابط القومية وموقف مصر الثابت تجاه أشقائها من الدول العربية والتضامن والتعاون الكامل معها من أجل مواجهة المحن والأزمات”.

وبرز ذلك جلياً خلال تدشين مصر جسراً جوياً عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 لنقل المساعدات الغذائية والطبية إلى بيروت، فضلاً عن دعم عمل الكوادر الطبية بجامعة بيروت العربية بسبب تزايد الضغط عليها عقب حادثة المرفأ. فقد تم إيفاد 21 طبيباً من كبار الأساتذة المتخصصين بكليات الطب في الجامعات المصرية، ومن بينها جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية وطنطا وأسيوط والأزهر. وهنا فإن البعد القومي العربي اتضح أيضاً في التحرك الإغاثي المصري تجاه لبنان.

وأدى ذلك إلى إعادة الزخم إلى القضايا ذات الطبيعة القومية، وتحديداً القضية الفلسطينية، حيث توافق أعضاء المكتب التنفيذي لوزراء الصحة العرب، في 20 مايو الماضي، على تخصيص نحو 500 ألف دولار لسرعة تلبية جميع الاحتياجات الطبية العاجلة للشعب الفلسطيني من حساب الصندوق العربي للتنمية الصحية على أن تتولى وزارة الصحة المصرية توفير الدعم العيني من الاحتياجات الطبية بما يعادل المبلغ المقرر، وإرسالها إلى الأراضي الفلسطينية باسم جامعة الدول العربية.

4- تجاوز المراحل السابقة من الخلافات البينية: وهو ما ينطبق، على سبيل المثال، على موقف الكويت تجاه ما كان يعرف بـ”دول الضد”، وهى الدول التي اتخذت مواقف مؤيدة للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بغزوه للكويت مثل ليبيا وتونس وموريتانيا والجزائر واليمن والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث استطاعت القيادة السياسية الكويتية في فترات زمنية مختلفة تجاوز “الماضي” مع تلك الدول عبر تقديم مساعدات طبية متنوعة ولدول عديدة.

وفي هذا السياق، أكد وزير الصحة الكويتي السابق د.علي سعد العبيدي خلال إحدى الجلسات الحوارية بشأن الدبلوماسية الصحية التي نظمها المكتب الإقليمي لشرق المتوسط لمنظمة الصحة العالمية بالقاهرة في 7 مايو 2016 على أن “دولة الكويت تؤكد إدراكها لأهمية دور الدبلوماسية الصحية واعتزازها بمستوى التعاون والتنسيق مع منظمة الصحة العالمية واللجنة الإقليمية لشرق المتوسط”. وما يؤكد ذلك هو إرسال الكويت مساعدات طبية لقطاع غزة في نهاية مايو الماضي.

وبحسب ما أوردت “وكالة الأنباء الكويتية” (كونا) في 28 مايو الماضي، قال مدير إدارة الكوارث والطوارئ بجمعية الهلال الأحمر الكويتي يوسف المعراج: “إن الهلال الأحمر قدم من خلال هذه القافلة نحو 85 طناً من المواد الغذائية والمستلزمات الصحية والكراسي المتحركة تسلم إلى الهلال الأحمر الفلسطيني”. وأكد المعراج “موقف الجمعية النبيل لإرسال هذه المساعدات بشكل عاجل للفلسطينيين بقطاع غزة لتقدم للمرضى والمحتاجين، فيما سيتم متابعة بعض الحالات لعلاجها بدول خارج غزة أو علاجها في دولة الكويت عبر اتفاق مبدئي مع الهلال الأحمر الفلسطيني”.

5- تكثيف العلاقات مع الدول ذات الارتباط بالمصالح الوطنية: على نحو يعكسه الدعم المصري للمنظومة الصحية في السودان في مجالات مكافحة الأمراض المعدية والوبائية، والتعليم الطبي المهني، بالإضافة إلى توطين صناعة الدواء، وتبادل الخبرات بين البلدين في مواجهة كوفيد-19 وتوفير اللقاحات وتدريب الأطباء السودانيين على بروتوكولات التشخيص والعلاج، وتوفير أجهزة PCR وكواشف طبية، علاوة على جرعات أدوية مختلفة وتجهيز خمس مراكز لعلاج فيروس سي.

فضلاً عن الاتفاق على إرسال قوافل طبية إلى السودان في أغسطس 2021، لمكافحة بعوضة “جامبيا” من خلال فرق من الطب الوقائي بوزارة الصحة المصرية، وكذلك إطلاق حملات التطعيم ضد شلل الأطفال بكل من مصر والسودان في الوقت نفسه. وكذلك الاتفاق على تفعيل بروتوكولات مكافحة حمى الوادي المتصدع، وحمى الضنك بالسودان، وتوفير منح تدريبية للأطباء السودانيين للحصول على الزمالة المصرية.

وفي هذا السياق، أكدت وزيرة الصحة والسكان د.هالة زايد خلال استقبالها وزير الصحة بدولة السودان، د.عمر النجيب، في 7 يوليو 2021، أن هذا “الدعم يأتي انطلاقاً من المسئولية المشتركة بين البلدين ودور مصر الريادي في القارة الإفريقية”.

6- الحد من تأثير القوى الإقليمية على الدول العربية: تسهم تحركات بعض الدول العربية، مثل الإمارات، في التخفيف من الأزمات التي تتعرض لها دول عربية منعاً لتأثير أطراف إقليمية عليها مثل سوريا، حيث قامت هيئة الهلال الأحمر الإماراتية بالتنسيق والتعاون مع هيئة الهلال الأحمر السورية في أبريل 2021، بإرسال شحنة مساعدات طبية تشمل لقاحات كوفيد-19، لدعم جهود توفير لقاحات لتطعيم الشعب السوري تستهدف العاملين بالخطوط الأمامية بالمجال الطبي وأصحاب الحالات الإنسانية الصعبة وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة والأشخاص في أماكن النزوح، وهو ما قامت به السعودية أيضاً بتوجيه مساعدات طبية للعراق، وتحديداً لوزارة الدفاع هناك في 14 سبتمبر 2020، للإسهام في تعزيز قدرات الطواقم الطبية والعاملين في مجال الرعاية الصحية لمواجهة فيروس كورونا المستجد.

الأمن الصحي

خلاصة القول، إن هذه المساعدات الطبية وما يرتبط بها من اتخاذ الإجراءات الحمائية على المستوى الداخلي سوف تؤتي ثمارها خلال المرحلة المقبلة في إطار تعزيز أواصر العلاقات بين الدول العربية، ودعم صمودها في مواجهة أية توترات مفاجئة أو أزمات قادمة، لاسيما أن الدول العربية مطالبة بالتعاون متعدد الأطراف لمواجهة المخاطر الصحية العابرة للحدود التي عكستها جائحة كوفيد-19 وضرورة التعامل المشترك مع آثارها.

بعبارة أخرى، هناك إدراك متزايد لدى المؤسسات في الدول العربية للصحة كهدف للسياسة الخارجية وكمساهم في تحقيق الوئام والسلام، لأن الأهداف الرئيسية للدبلوماسية الصحية سواء في المنطقة العربية أو غيرها تتمثل في توفير أمن صحي أفضل للسكان، وتحسين العلاقات بين الدول والتزام طائفة عريضة من الجهات الفاعلة بالعمل معاً على تحسين الأوضاع الصحية، وتحقيق النتائج العادلة، وفقاً لما يتطلع إليه المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في منطقة شرق المتوسط.